حوارات ومقالاتمقالاتىنرشح لكم

ياسر أيوب يكتب ضمن سلسلة “ألعاب وحواديت” .. صمود بورسعيد وشهادات وصور موسكاتيلى

فى نوفمبر 1956 .. حاصر الإنجليز والفرنسيون مدينة بورسعيد ودخلها جنودهم بسلاحهم وقسوتهم وغطرستهم .. تخيلوا أن أهل بورسعيد سيستسلمون بدافع الخوف والحزن والألم لكنهم فوجئوا بالمصريين فى بورسعيد يبدأون ملحمة صمود نبيلة ورائعة واستثنائية .. أمهات وآباء وبنات وأبناء وموظفون وعمال ولاعبو كرة قدم قرروا المقاومة .. تحولوا كلهم بدون اتفاق مسبق أو قرار رسمى إلى فدائيين على استعداد للموت دفاعا عن بيوتهم ومدينتهم وبلدهم .. وكان بإمكان إيتورى موسكاتيلى أن يجمع أشياءه ويعود مع أسرته إلى إيطاليا لكنه اختار أن يبقى وسط أهل بورسعيد مهما كانت المخاطر والتهديدات .. وأصبحت الكاميرا الخاصة به هى سلاح الرفض والمقاومة الذى يحمله فى يده وسط شوارع وأهل بورسعيد.

وطيلة أيام العدوان .. ظل موسكاتيلى فى الشوارع يسجل بالصور كل جرائم الإنجليز والفرنسيين .. الشباب والأطفال الذين يقتلونهم والبيوت الكثيرة التى يهدمونها .. وبدأ موسكاتيلى ينشر هذه الصور فى صحافة أوروبا .. كأن موسكاتيلى وقتها قد تحول إلى الميكروفون والشاشة وتويتر وفيس بوك بلغة هذه الأيام .. واستخدم كل ذلك للتأكيد على صمود وبطولة بورسعيد وأهلها .. وفضح كل جرائم المعتدين ووحشيتهم .. وأصبحت تلك الصور هى أقوى دليل امتلكته مصر وقتها على كل ما قام به المعتدون من جرائم وفظائع وفضائح .. ووصفه كثيرون وقتها بأنه كان الضمير الأوروبى الذى غاب عن الإنجليز والفرنسيين .. وظل موسكاتيلى كذلك حتى انتصرت مصر ورحل المعتدون عن بورسعيد .. وقررت حكومة مصر تعيينه المصور الرسمى لمدينة بورسعيد .. وقام بالفعل بتسجيل كل الاحداث المهمة التى عاشتها بورسعيد بعد العدوان.

وبعد عشر سنوات على انتصار بورسعيد ومصركلها .. تلقى موسكاتيلى رسالة رسمية بتوقيع اللواء مصطفى حسن الجمل رئيس شعبة البحوث العسكرية بالقيادة العليا للقوات المسلحة .. وفى هذه الرسالة قال اللواء مصطفى .. تتشرف شعبة البحوث العسكرية بتقديم جزيل شكرها إلى سيادتكم لما أظهرتموه من تعاون صادق فى كشف المزيد من الحقائق عن العدوان الثلاثى الغاشم بمجموعة الصور الكبيرة التى تفضلتم مشكورين بإعارتنا إياها .. الأمر الذى كان له أفضل الأثر فى إصدار الكتاب الرسمى بمناسبة مرور عشر سنوات على حرب العدوان الثلاثى .. خاصة أن هذه الصور تسجل أحداث العدوان الغاشم على بورسعيد تسجيلا أمينا صادقا .. وكانت بعض هذه الصور وثائق وشهادات ضمها إلى الملف الرسمى الذى قدمته مصر للأمم المتحدة لفضح العدوان وجرائمه فى بورسعيد .. ولا يزال المتحف الحربى فى بورسعيد يحتفظ ببعض هذه الصور حتى الآن .. وفازت صور كثيرة لموسكاتيلى بجوائز عديدة لما تضمنته من معان ومشاعر وبطولة أيضا.

وكانت تلك الرسالة ووقائع وتفاصيل أخرى كثيرة هى حكاية إيتورى موسكاتيلى .. لاعب الكرة الإيطالى الذى وقع فى غرام بورسعيد .. وكانت حكايته معها واحدة من أجمل حكايات المدينة والانتماء لها ولمصر كلها .. ويزيد من جمال هذه الحكاية أنها كانت حكاية عمر لم تنته إلا برحيل صاحبها .. حتى ابنته الصغيرة آنا موسكاتيلى .. علمها اللغة العربية وحب بورسعيد والانتماء إليها .. ولا تزال آنا حتى الآن عاشقة لبورسعيد وهى التى حكت لى كثيرا عن والدها وعن بورسعيد وعن قصة الحب التى يصعب نسيانها حتى إن بقى كثيرون حتى الآن لا يعرفون كل تفاصيلها وأسرارها.

وكانت عائلة موسكاتيلى إحدى العائلات الإيطالية الكثيرة التى استقرت فى بورسعيد بعد افتتاح قناة السويس لدرجة تأسيس المدرسة الإيطالية 1889 كثانى أقدم مدرسة فى بورسعيد .. وتأسيس قنصلية إيطالية فى المدينة 1907 كان مكتوبا على حائطها الخارجى أسماء 20 جنديا إيطاليا قتلوا فى الحرب العالمية الأولى .. وولد إيتورى فى 12 أبريل 1916 .. ومنذ طفولته أحب كرة القدم وكان من الطبيعى بعد سنوات الصبا الكروية أن ينضم إيتورى إلى نادى فيرتوس الذى كان نادى الإيطالين فى بورسعيد .. ومنذ 1933 أصبح إيتورى حارسا لمرمى فيرتوس وفاز فيرتوس بدورى منطقة القناة 1936 و1938 .. وشارك فى الكأس السلطانية ونصف نهائى كأس الملك 1939 .. وفى عام 1940 وبعد بدء الحرب العالمية الثانية .. توقف النشاط الكروى لفيرتوس حيث بات الإيطاليون مغضوبا عليهم فى مصر كلها من الإنجليز .. كما تم القبض على إيتورى مع عشرات الإيطاليين واحتجازهم فى أحد معتقلات مدينة فايد .. وكان معه فى المعتقل شقيقان له وأب تجاوز الستين من العمر .. وخلال سنوات الاعتقال بقى إيتورى يلعب كرة القدم مع زملائه الإيطاليين ضد الإنجليز طيلة أربع سنوات حتى تم الإفراج عنه وعنهم بعد انتهاء الحرب فى 1945 .. وعاد إيتورى إلى بورسعيد لكنه لم يعد إلى فيرتوس حيث ساعد عبد الرحمن لطفى باشا فى الحاقه بالنادى المصري.

وقد أصبح عبد الرحمن بعد عامين رئيسا للمصرى وظل رئيسا سنينا طوبلة شهدت نجاحات وبطولات للمصرى وإيتورى موسكاتيلى أيضا .. وبدأ عبد الرحمن لطفى حياته العملية موظفا بالبريد ثم فى شركة دورى الإنجليزية لصيانة السفن ومارس التجارة سنينا طويلة وربح المال حتى أصبح أحد كبار أغنياء بورسعيد .. وحين تبرع بمبلغ 14 ألف جنيه لبناء مبرة محمد على فى بورسعيد التى افتتحتها الأميرة فوزية فاعتاد الناس وقتها تسميتها مبرة فوزية .. ومنحه الملك فاروق لقب باشا .. وبعدها اشترى أرضا فى شارع كيتشنر وبنى بيته فوقها الذى كان جميلا وفخما وهو الذى دارت داخله أحداث فيلم إشاعة حب الذى قام ببطولته يوسف وهبى وعمر الشريف وسعاد حسنى وأخرجه فطين عبد الوهاب.

ومع المصرى .. فاز موسكاتيلى أربع مرات بدورى منطقة القناة وكان أول لاعب ايطالى يشارك فى نهائى كأس الملك أمام الأهلى 1945 ثم أمام الأهلى أيضا فى نهائى 1947 .. كما كان حارس المرمى الأساسى لمنتخب القناة عشر سنوات متتالية وفاز معه بكأس الملك فؤاد للمناطق مرتين .. وكان حارس مرمى مميزا وموهوبا أيضا أشادت به الصحافة كثيرا .. لكنه بدأ يفقد البريق والتألق مع انطلاق الدورى العام حيث كبر فى السن وبدأ يتألق فى المصرى حراس مرمى جدد صغار وموهوبون كان أهم شاب ايطالى أيضا اسمه ألدو الذى سيصبح شهيرا فيما بعد وسينجح الزمالك فى ضمه .. وعنه كان المونولوج الشهير .. شالوا ألدو جابوا شاهين .. ألدو قال ما انتوش لاعبين .. ورغم جنسيته الإيطالية إلا أن ألدو قام بحراسة مرمى منتخب مصر فى مباراة ودية أمام المجر 1961 .. وكان ألدو هو ابن خالة موسكاتيلى .. وموسكاتيلى هو الذى قام بتدريبه على حراسة المرمى.

واعتزل موسكاتيلى الكرة وبدأ يمارس هوايته الثانية التى كانت التصوير الفوتوغرافى .. وإذا كان موسكاتيلى بقى هاويا كلاعب كرة .. فقد احترف التصوير وأصبح مهنته الأساسية وافتتح الاستوديو الخاص به .. فوتوليدو موسكاتيلى .. فى 6 شارع قايتباى .. وفى الدور الأرضى من العمارة التى كان يقيم فيها .. وأقام فيها أيضا بعد زواجه من ماريا ماسا .. الإيطالية المولودة أيضا فى بورسعيد .. وأقيم حفل الزفاف فى فندق بالاس بورسعيد .. وأنجب موسكاتيلى وماريا ابنتهما الوحيدة آنا .. ولأنه كان موهوبا فى التصوير ربما أكثر من موهبته الكروية نجح الاستوديو وأقبل عليه الناس .. كما بدأ أيضا العمل كمراسل ومصور فى بورسعيد لبعض الصحف فى القاهرة .. وحين قامت ثورة يوليو 1952 .. رحل إيطاليون كثيرون من مصر عائدين إلى إيطاليا لكن موسكاتيلى أصر على البقاء مع أسرته فى المدينة التى أحبها وارتبط بها.

وظل موسكاتيلى فى بورسعيد بعد العدوان حتى بداية السبعينات .. جرى به العمر وسبقته أيامه فقرر أخيرا السفر إلى روما واستقر فيها حتى رحيله فى 13 نوفمبر 2000 .. ورغم ذلك بقى حريصا على أن يأتى فى شهر سبتمبر كل عام ليقضى فترة من الوقت فى بورسعيد يستعيد ذكرياته ويواصل حكاية حبه للمدينة المصرية التى بقى يعتبرها مدينته وحبيبته.

وحين سألت ابنته آنا التى تقيم فى روما عن بورسعيد .. قالت أنه لا اللغة الإيطالية أو العربية تساعداها على التعبير عما تمثله لها مدينة بورسعيد وسنواتها التى عاشتها فيها منذ ولادتها هناك .. وحين استقر والدها فى روما كانت تحرص أيضا على أن تأتى معه كل عام لزيارة بورسعيد وزيارة شقيقة والدها التى أقامت فى القاهرة .. ولا تزال آنا تتذكر سنواتها فى مدرسة الفرنسيسكان فى شارع عرابى .. وجنينة فريال القريبة من البيت الذى أقامت فيه .. وكازينو بالاس وشاطىء بورسعيد .. ولا تزال آنا حريصة على الاحتفاظ بلغتها العربية التى تعلمتها فى بورسعيد .. فتقرأ الكتب وتشاهد الأفلام المصرية .. وقالت أنها بعد مرور كل هذه السنين .. لا تزال فخورة بما قام به والدها لبورسعيد التى تعتبرها آنا مدينتها وتعتز جدا بأنها المدينة التى شهدت ولادتها وفيها تعلمت القراءة والكتابة وأيضا معان كثيرة لا تزال تعيش داخلها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى