العاب فرديةالعاب مائيةمقالاتىرئيسيةىنرشح لكم

ياسر أيوب يكتب ضمن سلسلة “ألعاب وحواديت”.. التلاميذ وعلى إبراهيم ودموع بحر البقر

في 8 أبريل 1970 .. قامت طائرات إسرائيل بقصف مدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية.. ولم يعد يومها إلى بيوتهم ثلاثون طفلا كانوا في فصولهم وقتلتهم قنابل إسرائيل بمنتهى الوحشية والغدر.. وأصيب خمسون طفلا آخرون سيضطرون لاستكمال حياتهم عاجزين جسديا أو نفسيا بعدما صبغ الدم كراساتهم وضحكاتهم وأحلامهم وبراءتهم.. وبعد 255 يوما عقب هذه المأساة أو المذبحة .. استقبل إبراهيم الفلاح البسيط في بحر البقر أول أولاده واختار له اسم علي .. وكان إبراهيم قد هاجر من منشية أبو عامر ليستقر مع زوجته فى بحر البقر ويزرع خمسة فدادين سلمتها له الدولة .. ورغم ثلاث بنات وابن جاءوا بعد على .. بقيت لعلى مكانة خاصة داخل قلب الأب ليس فقط لأنه كان الإبن الأكبر إنما طبيعة على وخجله وهدوءه وطيبته لدرجة أن الأب لم يضطر يوما أن يغضب منه وعليه أو يضربه .. ولم يكن إبراهيم وكل أهل بحر البقر يتوقعون أن على حين يكبر سيصبح أول فرحة حقيقية لبحر البقر منذ جريمة إسرائيل وضحاياها التلاميذ الصغار .. ولم يكن فى حياة على ما يوحى أنه يوما ما سصبح بطل مصر فى التجديف وأحد أبطال العالم أيضا .. وستكون حياته وحكايته واحدة من أجمل وأغرب حكايات الرياضة المصرية .. حكاية كنت أحد شهودها وعشت كل تفاصيلها سواء فى بحر البقر أو القاهرة .. والصحفى الوحيد الذى جلس طويلا مع الأب والأم والثلاث شقيقات وحسين الشقيق الأصغر .. ومحمد عبد السلام أقرب وأغلى أصدقاء على .. ويحيى زكريا الشافعى أستاذ مدرسة بحر البقر .. والنقيب عمرو رجائي ضابط الشرطة الذى أحال علي إبراهيم من مجند بالأمن المركزى إلى أحد أبطال العالم فى التجديف.

ولم يكن على فى طفولته وصباه يرفض أبدا أو يهرب من مساعدة والده فى زراعة الأرض أو مساعدة والدته وأشقائه في أي شىء .. وقال أستاذه في مدرسة بحر البقر أنه كان تلميذا هادئا ويجلس دائما فى المؤخرة نتيجة طول قامته لكنه لم يكن متفوقا أو مهتما بالدروس والمذاكرة .. وقال صديق عمره أنه كان مع على يقومان بالتزويغ من المدرسة كثيرا سواء للعب كرة القدم أو لصيد السمك من مصرف بحر البقر والذهاب لبيع السمك فى مدينة الحسينية أو الإسماعيلية .. وقبل أن ينال على الشهادة الإعدادية .. قرر التوقف عن الدراسة رغم محاولات والده إقناعه بضرورة استكمال تعليمه والحصول على شهادة تضمن له وظيفة .. ولم يقتنع على وترك المدرسة ليعمل مع والده فى زراعة أرضهما وظل كذلك حتى جاء سن التجنيد .. وفى الزقازيق .. تم توزيع على كمجند أمن مركزى فى معسكر مبارك فى القاهرة .. وذهب النقيب عمرو رجائى للمعسكر واختار 12 مجندا يذهبون معه إلى نادى الشرطة للتجديف كان على واحدا منهم .. وهناك قرر النقيب عمرو أن على يصلح كلاعب تجديف ببنيانه القوى وطول قامته .. وبالفعل بدأ مساعد شرطة عبد العال درويش تعليم على ممارسة التجديف .. وفيما بعد كنت مع على داخل قارب صغير فى النيل وحكى لى عن أيامه الأولى فى التجديف قائلا بمنتهى البساطة والتلقائية .. أنا كنت رايح زى أى مجند عادى .. علمونى التجديف .. مشيت فى التجديف .. وبعدين جت فى دماغى وحبيت حاجة إسمها التجديف .. مش علشان أنا مجند .. لكن أنا حبيت التجديف بجد .. أصل الرياضة ما فيهاش ميرى .. ومن أول يوم ما كانتش المعاملة ميرى .. كنت باتمرن علشان عايز أتمرن .. كل حاجة كانت بمزاجي وكنت عايزها.

وحين عاد على إلى بحر البقر فى أول أجازة .. حكى لأسرته عن كل ما جرى هناك فى نادى الشرطة للتجديف .. وحكى لى الأب أنه وقتها لم يعرف ما هو التجديف وظل يسأل على عن كل التفاصيل حتى يعرف ويفهم .. وبعدما حكى على له كل شىء .. خاف الأب والأم وحاولا اقناع ابنهما الأكبر بالابتعاد عن كل هذه المخاطر ويبقى مجرد عسكرى يقضى تجنيد الثلاث سنوات ويعود بعدها سالما يساعد والده فى زراعة الأرض .. واقتنع الأب أخيرا حين قال له على أن كل شىء بقضاء الله سواء كان الانسان فى الماء أو على الأرض وفى الشارع أو حتى داخل بيته .. وعاد على بعد الأجازة إلى نادى الشرطة من جديد لمواصلة التدريب على التجديف .. لم يكن يتعب من التدريب الشاق المستمر ولم يحاول أن يهرب فى أى يوم أو يتكاسل .. وقرر نادى تجديف الشرطة بعد عام واحد فقط إشراك المجند على إبراهيم فى بطولة الجمهورية للتجديف .. وكانت المفاجأة هى أن المجند البسيط بعد تدريب لمدة عام واحد فقط استطاع أن يفوز ببطولة الجمهورية .. وتحدثت كثيرا مع النقيب عمرو رجائى عن تلك الأيام وهذه المفاجأة .. وسألته كيف ينجح فلاح مصرى فى الفوز ببطولة الجمهورية للتجديف وهو الذى كان قبل عام واحد لا يعرف ما هو التجديف ولا يعرف حتى كيف يعوم ولم ير النيل من قبل ولا يعرف ما هو البحر ولم يسبق له أن كان فى مركب حتى من باب النزهة .. فهل كان دافعه الحقيقى هو أن التجديف بالنسبة له كان فرصة حقيقية لتغيير واقع قاسى وحزين فتمسك بها مهما كان الثمن أو التعب .. هل أحب التجديف بالفعل أم كان بالنسبة إليه لعبة غيرته من مجند أمن مركزى إلى بطل .. وبالتأكيد يبقى عمرو رجائى يستحق التحية والشكر لأنه كبطل تجديف سابق وبعين خبيرة فاحصة .. رأى مجند أمن مركزى وأصر على انه سيصبح بطلا للتجديف رغم أنه لم يتوقع أن يفوزعلى بالبطولة بعد عام واحد فقط

وبعد بطولة الجمهورية للتجديف .. قرر اتحاد اللعبة ضم مجند الأمن المركزى للمنتخب المصرى .. وتوالت مفاجآت على ابراهيم الذى فاز بسباق النيل الدولى للتجديف .. ثم بطولة العرب .. ثم بطولة أفريقيا .. ففى سنوات قليلة جدا أصبح الفلاح ابن بحر البقر هو أفضل لاعب تجديف فى مصر ثم فى أفريقيا كلها .. وكانت إيطاليا هى أول رحلة لعلى خارج مصر .. وبعدها روسيا .. ثم إيطاليا مرة أخرى .. ثم الولايات المتحدة الأمريكية .. وسافر على من جديد إلى جنوب أفريقيا ليفوز للمرة الثانية ببطولة أفريقيا .. وبدأ على يثير إهتمام كل مراقبى وخبراء اللعبة فى العالم كله .. وكافأه الإتحاد الدولى للتجديف بمشاركته فى كأس العالم على نفقة الإتحاد الدولى .. وسافر على للمشاركة فى كأس العالم والذى يقام على أربعة مراحل كل مرحلة منها فى بلد مختلفة .. فى بلجيكا كان على هو السادس .. وفى فرنسا كان السادس أيضا .. وفى إنجلترا كان الثالث .. وفى سويسرا كان العاشر .. وبعد نهاية البطولة رصد الاتحاد الدولى مجموع نقاط كل لاعب ليعلن الترتيب النهائى للاعبى التجديف على مستوى العالم .. وكانت المفاجأة .. المصرى على إبراهيم أصبح هو رابع العالم فى التجديف

وبينما كانت تتوالى رحلات على إبراهيم وبطولاته .. كانت بحر البقر كلها وبيوتها وأهلها يتابعون أخبار بطلهم ويرسلون أحدهم كل يوم إلى الحسينية يفتش فى الصحف والمجلات هناك عن أى خبر أو صورة لعلى إبراهيم الذى أصبح بالنسبة لهم اكبر وأهم من مجرد بطل رياضى .. إنما أمل وحبل نجاه ستتعلق به بحر البقر كلها لتهرب من الإهمال والنسيان وألف مشكلة .. فقد ظلت بحر البقر رمزا للحزن والألم حتى جاء على إبراهيم بفرحة بطولاته وانتصاراته لتجد القاهرة ما تتحدث عنه بشأن بحر البقر إلى جانب الصغار ضحايا إجرام إسرائيل .. ولم يهتم الناس وقتها بتفاصيل انتصارات على أو حتى معرفة سباقات التجديف وأنواع المراكب والبطولات .. إنما أسعدهم فقط أن صوتهم أصبح مسموعا فى الزقازيق عاصمة محافظتهم وفى القاهرة البعيدة التى أصبحت تلتفت إليهم

وعلى الرغم من فرحة بحر البقر كلها بعلى إبراهيم الذى أصبح أحد أفضل عشرة لاعبى تجديف فى العالم .. إلا أن والده كان لا يزال يتمنى أن يستكمل على تعليمه .. وقدم على أوراقه مرة أخرى للمعهد الدينى فى بحر البقر حتى ينال الشهادة الإعدادية ويبدأ المرحلة الثانوية .. لكن على لم يعد لديه وقت للدراسة من جديد بعد أن بدأ استعداده للمشاركة فى دورة أتلانتا الأوليمبية 1996 .. وكانت مفاجأة للجميع أن يتم اختيار على بالتحديد ليتقدم البعثة المصرية حاملا علم بلاده فى حفل افتتاح الدورة .. وفاز فى دورة أتلانتا بالمركز الثامن ثم فضية كأس العالم فى ميونخ ثم بباريس 1997 ثم فضية بولندا 1998 .. ثم برونزية كأس العالم 2002 ثم سادس العالم عام 2003 وأصبح أول لاعب مصرى يشارك في اربع دورات أوليمبية متتاليه .. وحين أتم من عمره 33 عاما قرر الاعتزال واتجه للتدريب فى نادى الشرطة آملا أن يقدم لمصر أبطالا جدد ينقل إليهم كل ما تعلمه والخبرات التى اكتسبها .. وفى 28 مارس 2010 .. كان على ذاهبا لاتحاد التجديف بمجمع الاتحادات الرياضية داخل استاد القاهرة .. وأثناء عبوره طريق صلاح سالم .. صدمته سيارة مسرعة وتم نقله بسرعة إلى المستشفى حيث مات بعد لحظات قبل أن يكمل الأربعين من العمر .. كأن حياته القصيرة بكل ما فيها من دراما ومفاجآت وبطولات كانت مجرد ابتسامة جميلة واستثنائية وسط دموع وأحزان بحر البقر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى