العاب فرديةمقالاتىرئيسيةىنرشح لكم

ياسر أيوب يكتب ضمن سلسلة “ألعاب وحواديت.. إبراهيم مصطفى ودموع القرية الأوليمبية

فى 8 أكتوبر 1968 .. أى قبل أربعة أيام من بدء دورة مكسيكو سيتى الأوليمبية .. ذهب محمود همت مدرب منتخب مصر لكرة الماء لغرفة إبراهيم مصطفى داخل القرية الأوليمبية ليوقظه لكنه اكتشف وفاته .. وبسرعة جاء أعضاء البعثة المصرية وتأكدوا من وفاة إبراهيم مصطفى مدرب منتخب مصر للمصارعة .. ولم يقتصر الحزن واحساس الصدمة على المصريين وحدهم داخل القرية الأوليمبية .. إنما كانوا كثيرين جدا فوجئوا بأول مدرب فى التاريخ الأوليمبى يموت داخل قرية أوليمبية .. وأقيمت جنازة لإبراهيم مصطفى المغطى جثمانه بعلم مصر داخل القرية الأوليمبية فى مدينة مكسيكو سيتى .. جنازة ضخمة شارك فيها معظم لاعبى ومدربى بلدان العالم المشاركة فى الدورة .. أول جنازة أوليمبية فى التاريخ والجنازة الوحيدة التى سار فيها كل هذا العدد من اللاعبين والمدربين والإداريين الرياضين من مختلف بلدان العالم وفى كل ألعابه الأوليمبية .. وتقدم الجنازة كل أعضاء البعثة المصرية فى المكسيك برئاسة أبو الفتوح السيد عبد المجيد .. وفى اليوم التالى تم شحن الجثمان عائدا إلى مصر ليتم دفنه فى الإسكندرية المدينة التى شهدت ميلاده وبدايته وبطولاته .. وشهدت أيضا عذاباته ودموعه ومأساته رغم ميدالية الذهب وكل انتصاراته .. فإذا كان العالم قد عرف إبراهيم مصطفى كأول مدرب أو رياضى يموت داخل قرية أوليمبية .. فإن إبراهيم مصطفى بالنسبة لمصر كان أول وأكثر بطل أوليمبى يعيش كل هذه المرارة وهذا الاحباط
وكان إبراهيم مصطفى قد سافر للمكسيك مدربا لمنتخب مصر للمصارعة عازما على استعادة نجاحات المصارعة المصرية التى فشلت فى الدورة السابقة فى طوكيو 1964 بأى ميدالية .. وهو أمر لم يكن إبراهيم مصطفى ليقبل تكراره واستمراره .. فقد قاد بعد اعتزاله المنتخب المصرى الذى فاز فى لندن 1948 بميدالية فضية لمحمود حسن وبرونزية لإبراهيم عرابى .. وفى هلسنكى 1952 ببرونزية لعبد الراشد كانت الميدالية الوحيدة لمصر فى تلك الدورة .. وبعد انسحاب مصر من ملبورن 1956 عادت لتشارك فى روما 1960 حيث قاد إبراهيم مصطفى المنتخب المصرى للفوز بميدالية فضية لعثمان السيد .. واكتفت المصارعة المصرية فى طوكيو 1964 بلمركزين الخامس لعلى كمال والسادس لإبراهيم السيد .. وبمجرد الوصول إلى العاصمة المكسيكية 1968 .. قادرإبراهيم مصطفى تدريبات جادة ودائمة لثلاثة لاعبين هم إبراهيم السيد ومحمود الشربينى ويحيى محمد حسنين حالما باستعادة الميداليات والنجاح .. ولم يكن يعرف أن هذه الدورة هى آخر محطات الحياة وأنه سيموت داخل القرية الأوليمبية حتى قبل أن تبدأ الدورة نفسها .. وإذا كان من الممكن فهم عدم اهتمام العالم الأوليمبى فيما بعد بوفاة أول مدرب داخل قرية أوليمبية نتيجة أحداث العنف والشغب التى شهدتها هذه الدورة وثورة الطلبة المكسيكيين ضد حكومتهم .. أحداث أدت لوفاة أكثر من 26 طالبا والقبض على أكثر من ألف طالب وبسببها باتت دورة مكسيكو سيتى 1968 إحدى أكثر الدورات الأوليمبية حزنا وعنفا وغضبا وإراقة للدماء .. فالصعب هو تفسير تجاهل مصر رياضيا وإعلاميا لهذا الحدث الاستثنائى الحزين الذى نادرا ما يتذكره أو يتحدث عنه أحد .. حتى اللجنة الأوليمبية المصرية نفسها حين أصدرت كتابا تذكاريا ضخما بمناسبة مرور مائة عام على تأسيسها .. تناولت بالتفصيل كل المشاركات المصرية فى مختلف الدورات الأوليمبية .. وفى الفصل الخاص بدورة مكسيكو سيتى .. لم تكن هناك أى إشارة ولو كلمة واحدة للمدرب المصرى الذى مات فى القرية الأوليمبية لكن كانت هناك إشارات للاضطرابات التى شهدتها الدورة واحتجاجات الرياضيين ضد التفرقة العنصرية
وكان لاعب الدراجات البرتغالى فرانسيسكو لازارو هو أول لاعب فى التاريخ يموت أثناء دورة أوليمبية فى دورة استكهولم 1912 .. وأول لاعبة كانت إليسكا ميساكوفا التى سافرت مع منتخب تشيكوسلوفاكيا للجمباز للمشاركة فى دورة لندن 1948 ومرضت وماتت فى آخر يوم للدورة وهو نفس اليوم الذى فاز فيه فريقها بميدالية الذهب ..وأصبح إبراهيم مصطفى هو أول مدرب يموت فى دورة مكسيكو سيتى 1968 .. ولم يكن إبراهيم مصطفى مجرد مدرب مصارعة أو مجرد لاعب وبطل مصرى للمصارعة .. إنما كان صاحب إحدى أجمل وأغرب حكايات الرياضة المصرية .. ففى أسرة بسيطة تعيش فى حى الفراهدة فى الإسكندرية .. ولد إبراهيم مصطفى فى 20 أبريل 1904 .. ولم تسمح ظروف الأسرة بأن يدخل إبراهيم مدرسة مثل بقية الأطفال الصغار فالتحق بورشة نجارة .. ولم تكن لإبراهيم الصغير أى أحلام مثل باقى الأطفال .. فقد كان من الناس الذين يختصرون كل أحلامهم فى مجرد البقاء على قيد حياة يعيشوها يوما بعد يوم .. ومضت سنوات حتى أصبح إبراهيم فى السادسة عشر من العمر ورأى المصارع الكبير والشهير عبد الحليم المصرى فى أحد استعراضاته فى الإسكندرية .. يومها فقط بدأ إبراهيم يحلم بالمصارعة .. حلم مستحيل لصبى فقير تخيل فى لحظة أنه يستطيع تحقيق المستحيل .. وبالفعل بدأ إبراهيم يتابع كل عروض المصارعة ومبارياتها ويتمرن ويقلد منفردا الحركات التى رآها وحفظها .. وفى سنة واحدة .. أصبح إبراهيم مصارعا يحلم بالبطولة رغم الجسد الهزيل والظروف القاسية .. وقرر أن يتحدى مصارعا إنجليزيا قويا جاء إلى الاسكندرية على استعداد لمواجهة لاعبى المصارعة فيها .. ولم يتعاطف الجمهور مع إبراهيم واعتبروه سيخذل أهل الأسكندرية ويحرجهم بهزيمة قاسية أمام البطل الإنجليزى .. وحكى الباحث التاريخى وسيم عفيفى كيف طالب الجمهور إبراهيم مصطفى بالنزول والخروج من الحلبة .. ورغم فوز إبراهيم إلا أن الحكم والجمهور اعتبروه مهزوما احتراما لشهرة المصارع الإنجليزى
وعرف صاحب ورشة النجارة بحكايته .. وتعاطف معه واشترك له فى أحد الأندية الأرمنية ليتعلم المصارعة بشكل صحيح وحقيقى .. ولفت إبراهيم نظر المدرب بيانكى الذى رأى إبراهيم يملك الموهبة والقوة والإصرار فأخذه إلى القاهرة .. وبعد ثلاث سنوات فقط فى القاهرة .. كان إبراهيم فى باريس مع البعثة المصرية للمشاركة فى الدورة الأوليمبية 1924 .. وفاز إبراهيم بمباراته الأولى ثم الثانية ولم يكمل الثالثة بسبب الإصابة لكنه عاد للإسكندرية بالمركز الرابع فى باريس .. وترك رابع العالم ورشة النجارة وبدأ يعمل سائقا لسيارة أجرى بحثا عن مزيد من الدخل يكفى لأن يتزوج .. واعتاد قضاء نصف يومه سائقا والنصف الآخر بطل مصارعة يواصل التدريب .. وسافر مع البعثة المصرية إلى أمستردام ليشارك فى دورتها الأوليمبية 1928 .. وفاز إبراهيم بخمس مباريات ليصل للمباراة النهائية أمام الألمانى أدولف ريجر .. ورغم تعاطف الجمهور مع الألمانى إلا أن إبراهيم فاز ليعود للإسكندرية ولمصر كلها هذه المرة بالذهب .. أول ميدالية أوليمبية وأول ذهبية للمصارعة المصرية
ورغم أن السيد نصير فى نفس الدورة فاز بالذهب أيضا فى رفع الأثقال قبل ذهبية إبراهيم مصطفى .. إلا أن حفيد إبراهيم مصطفى أكد أن تسليم الميداليات فى أمستردام كان لأبطال المصارعة قبل رفع الأثقال وأن إبراهيم مصطفى كان أول مصرى فى التاريخ يقف على منصات التتويج الأوليمبى .. وعاد بطل الذهب إلى مصر يتوقع وينتظر حفلات التكريم والتقدير لكنه لم يجد شيئا ولم يكن امامه إلا البقاء سائقا لسيارة أجرة .. وحاول أصدقاؤه مساعدته ووجدوا له وظيفة تريحه من معاناة السيارة الأجرة .. وكانت هذه الوظيفة فراشا لمدير بلدية الإسكندرية .. وقنع إبراهيم بوظيفة الفراش فى البلدية وبقى حالما بميدالية أخرى فى دورة برلين 1936 .. لكن منعته إصابة يده من السفر والمشاركة وأعلن اعتزااله وتفرغ لتدريب مصارعى الإسكندرية قبل اختياره لتدريب المنتخب المصرى للمصارعة قبل دورة لندن 1948 .. وبدأ إبراهيم المدرب مشواره مع المنتخب حتى كانت دورة مكسيكو سيتى 1968 التى كانت نهايته وشهدت رحيله بعد حياة حافلة بالتحدى والانتصار .. والكثير جدا من المرارة والإحباط والدموع .. وبعد الرحيل .. قام الاتحاد الدولى تكريما لإبراهيم مصطفى بتأسيس بطولة سنوية دولية للمصارعة تحمل اسمه يتنافس للفوز بميدالياتها مختلف أبطل العالم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى